انقسم الناس في عصرنا بين منكر لتأثير السحر أو وجوده من الأساس، وبين مهووس بتصديق كل ما يثار حول هذا الموضوع من خرافات ومبالغات، وقلما نجد من يتناول هذا الأمر بما له وما عليه، فما هي يا ترى حقيقة السحر والشعوذة؟!!
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من جسد وروح، فجعل جسده خاضعا لقوانين المادة، ومع ذلك فقد سخرها له ليؤثر فيها، بعد أن تعلم أسرارها وقوانينها، فسيطر بها على العالم المادي، غير أن لله في خلقه شؤونا، حيث ميز مخلوقات أخرى بأن جعل لها قوى روحانية لا مادية تفوق قدرة الإنسان، وإدراكه المادي، ويعتبر الجن من أبرز هذه المخلوقات التي اختصها الله سبحانه وتعالى بهذه الميزة، وكذا شياطين الجن، وعلى رأسهم إبليس اللعين، إذ قال الله عز وجل بخصوصه: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف : 27]
وبمقتضى قدرة الجن والشياطين على رؤية البشر، في حين أنهم لا يرونهم، وكذا قدرتهم على الوسوسة في اليقظة، واعتراض أحلام الناس في منامهم بالتجسد لهم وبالكلام، فإن الإنسان أصبحت عنده قابلية كي يتم توجيهه وفق أفكار ووساوس ليست من صنعه، بل آتية من عالم آخر، لكن لحسن الحظ أنه لا سلطة لها عليه ما لم يستجب لها بالفعل والتطبيق، قال الله عز وجل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ابراهيم : 22]
وإذا كان الله عز وجل ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، فإنه سبحانه وتعالى قد جعل لوسوسة الشياطين علاجا يتمثل في التجاء الإنسان إليه جل وعلا، والاستعانة به والإكثار من ذكره، وبقدر تركيز الشياطين على إغوائه والتخطيط لذلك، تكون حاجته إلى التوكل على الله.
ولأن الشياطين أيضا محكومون في إغوائهم للخلق بالزمان وبذل المجهود، فإنهم يرتبون أولوياتهم والأشخاص المستهدفين، وعليه فإنهم لا يركزون إغواءهم وتخطيطهم تجاه شخص معين إلا عند وجود داع لذلك، أي عند وجود ثمن، فما هو هذا الثمن؟!
حتى يقوم الشياطين بتحقيق رغبات السحرة في استهداف ضحاياهم، فإنهم ينفذون وغالبا في خفائهم، أعمال سحر وشعوذة وشرك وطقوس معينة لا يقوم بها إلا من باع آخرته، واختار طريقا يصعب العودة منه، ومغادرته إلى غيره إلا من رحم الله، وهذا الأمر هو عين ما تريده الشياطين، وهو إضلال الخلق.
ولا يقتصر السحر على الوسوسة للبشر، بل قد يشمل حواسهم أيضا، وفي هذا الصدد قال الله عز وجل: {قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف : 116]
ورغم أن السحر هو فقط خداع للحواس ولا يغير جوهر وطبيعة الأشياء، كما تفعل المعجزة، إلا أن ما يمكن أن يترتب عنه إن لم يتفطن الإنسان إلى أنه سحر، أو لم يعرف كيفية التعامل معه، فقد يصبح أذى حقيقيا يمتد إلى الواقع المادي، بسبب التفاعل الخاطئ معه، ولك أن تتخيل كيف أنه حتى رسول الله موسى عليه السلام لم يسلم من تأثير السحر على الأقل على مستوى حواسه، ولكن بطبيعة الحال، فذلك كان بإذن الله ليقضي أمرا كان مفعولا، قال الله عز وجل : {قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ (69)} [طه : 66-69]
ويكمن تأثير السحر في أنه يكون لكل واحدة من طلاسمه شيطان مكلف بها، فإذا قرأها الإنسان أو مارس السحر المرتبط بها، كأن يقوم مثلا بعمل سحر لإذاية فلان أو علان، فإن الشيطان المكلف بذلك النوع من السحر، أو الذي يشتغل مع ذلك الساحر، يركز وسوسته وتخطيطه لإذاية ذلك الشخص المعني، أو بتركيز الوسوسة للمحيطين به حتى يحاولوا التأثير عليه. يقول الله سبحانه وتعالى بخصوص سيدنا أيوب عليه السلام: "{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص : 41]
وعندما مات سليمان عليه السلام أوحى شياطين الجن إلى أوليائهم من شياطين الإنس، ليؤلفوا كتبا وطلاسم وينسبوها إليه عليه السلام، ليقنعوا الناس أن ما فيها من سحر ما هو إلا العلم الذي آتاه الله عز وجل لسليمان عليه السلام وكان يتصرف به في الكون والمخلوقات، وهو السحر الذي اتبعه اليهود، كما اتبعوا أيضا السحر الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت امتحانا واختبارا من الله للبشر، كما أن العلوم في القديم لم تكن متطورة وكان الإنسان يجد صعوبة في التمييز بينها وبين السحر، خصوصا إذا كان من يتعاطى السحر يبرع أيضا في بعض العلوم، فكان من الحكمة أن ينزل الملكان ليوضحا للناس بعض أعمال السحر ليتجنبوها. يقول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة : 102]
وقد أشارت الآية الكريمة السابقة إلى نوع آخر من أنواع السحر وهو التفريق بين الأزواج، ولكنه لا يضر ويأخذ مفعوله إلا بإذن الله عز وجل، فيثبت الزوج والزوجة بالقول الثابت في الحياة الدنيا، فلا تأخذ الوسوسة واختلاق المشاكل شيئا من ودهما ووفائهما لبعضهما بعضا.
على أنه ليس كل السحرة يكون لهم اتصال مباشر بعالم الجن والشياطين، فقد يكونون فقط مجرد نصابين، لا علاقة لهم بالسحر من قريب أو من بعيد، وقد يكون منهم من يجمع بين الأمرين السحر والنصب، ومنهم لا يكتفي بالطلاسم وأعمال السحر، بل يتجاوزه أو يخلطه باستخدام مواد كيميائية تؤذي الضحية في صحته فيصيبه من المرض والألم وشتات الأمر ما يغني عن الوسوسة، ويقوم مقامها وزيادة، وفي كلتا الحالتين هو إجرام يجب معاقبة من يقوم به.
غير أن ما ينشر السحر بين الناس، ليس هو فقط قصد الأذى بشكل متعمد، بل أيضا الجهل، واستعجال الأرزاق، وتفشي البطالة، وانتشار الخيانة بين الأزواج وقلة الاهتمام ببعضهم بعضا، والخوف من العين والحسد، والأمراض النفسية، فكم من الناس يتم خداعهم والتغرير بهم وجرهم إلى عالم السحر، من باب إبطال السحر الذي وقع عليهم، لذلك على الإنسان دائما أن يتثبت ويتبين قبل أن يحكم على أي إنسان بأن لجوءه إلى السحرة هو بهدف أذى غيره، فقد يكون ضحية ثلاث مرات: عندما وقع عليه سحر، وعندما قصد السحرة لإبطاله، وعندما تم تصنيفه مع مجموعة المجرمين الذين يؤذون الناس بأعمال السحر والشعوذة، ولكن يبقى كذلك متحملا لجزء كبير من المسؤولية إن لم يلتمس له الناس عذرا، بسبب كثرة ما يعانونه من ويلات بسبب السحرة، ومن يقصدهم.
كل هذا ويبقى المتوكل على الله الآخذ بالأسباب في اجتناب كل ما يؤذيه، في حفظ الله دائما، لذلك على الإنسان أن يعيش في طمأنينة، ولا يشغل نفسه بالخوف المستمر من السحر والشعوذة، لأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، فليتوكل على الله فإنه حسبه ونعم الوكيل، ومن وقع له شيء من أذى السحر، أو مشاكل الحياة فلا يرتم في أيدي السحرة والمشعوذين والنصابين والدجالين، وليفوض أمره إلى الله، ويعالج نفسه بما شرعه الله من الرقية والأذكار والأدعية وقراءة القرآن الكريم، أو اللجوء إلى أطباء الأمراض النفسية أو العضوية حسب الحاجة.
عافانا الله وإياكم من كل مرض وسحر وشعوذة وأذى وسوء ومكروه، وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.
هذا والله أعلى وأعلم.